فن

سويت نوفمبر: مخرجات الأفلام في مصر و98 عاماً من الجرأة

نعيش عصراً ذهبياً للنساء في صناعة السينما.. ظاهرة فلكية نادرة شاهدناها في نوفمبر الماضي، عندما استقبلت شاشات السينما 6 أفلام مصرية لمخرجات نساء.

future من اليمين، المخرجات: هبه يسري، كوثر يونس، وندى رياض

ظاهرة فلكية نادرة شاهدناها في نوفمبر الماضي، عندما استقبلت شاشات السينما 6 أفلام مصرية لمخرجات نساء. يمكن بسهولة تجميع مقالات ومكتبات كاملة عن الصعوبات التي واجهتها صانعات الأفلام في مصر طوال القرن الماضي، لكن ربما يمنعنا هذا من ملاحظة أننا بالفعل نعيش عصراً ذهبياً للنساء في صناعة السينما.

بدأ شهر نوفمبر الماضي بانفجار غير متوقع في شباك التذاكر بالفيلم الرومانسي الهوى سلطان، وهو أول فيلم طويل للمخرجة هبة يسري، لتتخطى إيرادات الفيلم 70 مليون جنيه خلال 5 أسابيع. بنفس التوقيت بدأ عرض الوثائقي رفعت عيني للسما من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، قبلهما بأسبوع بدأ عرض آل شنب للمخرجة أيتن، بعد عرضه الأول ضمن مهرجان الجونة السينمائي في 2023، أيضاً من الجونة أتت المخرجة جيلان عوف بالفستان الأبيض بعد عرضه العالمي في نهاية أكتوبر الماضي، وبسيناريو مشابه انطلق مين يصدق للمخرجة زينة عبد الباقي بعد أسبوع من عرضه الأول في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. المهرجان قدم أيضاً فيلم دخل الربيع يضحك للمخرجة نهى عادل، وفاز بأربع جوائز من المهرجان، ولم يصل بعد لدور العرض التجارية.

يمكن ربط هذا الحدث الفريد بأنه نتيجة تراصف العديد من المهرجانات في موسم ضيق، حيث توفر المهرجانات مساحة تمييز إيجابي لصانعات الأفلام دعماً لهن. بالفعل 5 من هذه الأفلام ارتبطت بالمهرجانات، لكن 3 منها هي أفلام تجارية أُنتجت من خلال آليات السوق التقليدية؛ (آل شنب، الفستان الأبيض، مين يصدق)، عرضها من خلال المهرجانات كان فقط لجذب المزيد من الأضواء إليها.

إذا تجاوزنا موجة نوفمبر، فسنجد أفلاماً أخرى قدمتها مخرجات خلال 2024: الكوميديا الموسيقية مقسوم للمخرجة كوثر يونس (منتجة دخل الربيع يضحك)، والوثائقيين رسائل الشيخ دراز لماجي مرجان، وجولة ميم المملة لهند بكر، وحققا نجاحاً نسبياً في سينما زاوية خلال الصيف. إضافة إلى فيلم هالة القوصي شرق 12 الذي عُرض في مهرجان كان ولم يصل بعد لمصر، وكذلك فيلم سنووايت للمخرجة تغريد أبو الحسن الذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر وفاز بجائزة أفضل ممثلة لمريم شريف.

هكذا يكون لدينا 11 مخرجة قدمن أفلاماً خلال هذه السنة، وهو رقم قياسي غير مسبوق في تاريخ السينما المصرية.

عاشقات السينما 45

لفهم هذه الطفرة، أجريتُ إحصاءً للأفلام التي قدمتها مخرجات عبر تاريخ السينما المصرية (معايير الإحصاء تجدها في نهاية التقرير)، النتيجة أنه خلال 98 سنة (1927-2024) قدمت 45 مخرجة 110 أفلام مصرية، يعني هذا أن عام 2024 وحده شهد 10% من إجمالي أفلام المخرجات المصريات في هذا الإحصاء.

لتسهيل تحليل هذه البيانات قسمتُ هذه المدة إلى 5 فترات، تبدأ بفترة رائدات السينما خلال مرحلة نشوء الصناعة (1927-1937)، ثم فترة وسيطة حتى 1979، ثم الثمانينيات والتسعينيات حتى 2000، وفترة الألفينيات التي تنتهي في 2010، وأخيراً فترة ما بعد الثورة وحتى 2024.

امرأة واحدة لا تكفي

رأس المال لم يكن العائق الأول في وصول النساء لكرسي المخرج في مصر، فخلال معظم تاريخ السينما المصرية توافرت منتجات مثل آسيا داغر وماري كوين وماجدة الصباحي التي سجلت علامة الإخراج الوحيدة خلال 40 سنة بفيلم من أحب (1966).

خلال تلك الفترة، اعتمد الترقي في صناعة السينما على تقاليد للتعلم واكتساب الخبرات بشكل شخصي من العاملين المحترفين أشبه بتراتبية التبعية لمشايخ المهن الحرفية، وهي تقاليد لم ترحب بالنساء في عالم ما وراء الكاميرا، باعتبار أن أهم مهام المخرج هي السيطرة على فريق عمل ضخم من حرفيين يحتاجون لرجل في مقعد القيادة.

أثناء فترة نشوء الصناعة توافرت فرص وخبرات وموارد لأربع ممثلات مغامرات للعب دور الإخراج، لكن هذا الوضع تغير بحلول الحرب العالمية الثانية في 1939، غالباً بسبب اختلاف نمط التمويل والإنتاج الذي أصبح أضخم وأكثر تركيباً بمؤسسات مثل ستوديو مصر وستوديو نحاس، وبالتالي ازداد اعتماده على التقاليد الحرفية. ومع غياب مؤسسات التعليم مهنياً وفنياً، غابت النساء عن معظم المهن خلف الكاميرا، رغم سياسات التحديث الاجتماعي التي بدأت في الخمسينيات.

تأسيس التلفزيون ومعهد السينما أتت نتائجه في الفترة التالية، بظهور مخرجات خريجات معهد السينما مثل إيناس الدغيدي (الأغزر إنتاجاً برصيد 16 فيلماً)، وإنعام محمد علي في التليفزيون، بينما شقت نادية حمزة طريقها عبر الطريقة الحرفية التقليدية. الجيل التالي في الألفينيات استفاد من فترة انتعاش الإنتاج والإيرادات، وكذلك صعود مفهوم السينما المستقلة وتقنية التصوير الرقمي، ثم تدريجياً تحسن تواصل المخرجات مع السوق وكذلك شبكات الدعم الدولي والإنتاج المشترك الخارجي التي توفر تمييزاً إيجابياً لصانعات الأفلام.

نساء ضد القانون

حوالي ثلثي أفلام المخرجات اعتمدت على تقديم قضايا المرأة، أو على الأقل أبرزت قصصها نماذج نسوية. لا مفاجأة في هذا، ولكن يمكن ملاحظة الوعي المبكر جداً لدى المخرجات بأهمية طرح قضايا المرأة اجتماعياً في أفلام العشرينيات والثلاثينيات، فكل أفلام هذه المرحلة كانت تتمحور حول شخصيات نسائية قوية تصطدم بالتقاليد الاجتماعية الراسخة، المثال الأوضح هو فيلم الزواج الذي تناولت به المخرجة فاطمة رشدي حرية المرأة في اختيار الزوج. وكان هذا اتجاهاً مقاوماً للتيمة الرئيسية لأفلام الثلاثينيات والأربعينيات التي تكرس لقدسية التقاليد، وتعزز مخاوف الجمهور من رغبات النساء في التحرر.

خلال الثمانينيات والتسعينيات تمكنت نادية حمزة وإيناس الدغيدي من إقناع الصناعة بمنحهما توكيلاً حصرياً لأفلام المرأة التجارية، يمكن ملاحظة أن معظم عناوين أفلامهما تحمل مفردات: امرأة، نساء، حتى إن حملة الترويج لفيلم نادية حمزة نساء صعاليك (1991) اعتمدت على أنه فيلم لم يظهر به أي رجل.

في المقابل، مارست الصحافة والمجتمع لعبة اصطناع أيقونة نمطية للمخرجة المعادية للرجال والتقاليد، ووصلت هذه اللعبة لذروتها في 2002 بحكم قضائي ضد إيناس الدغيدي بالجلد والغرامة بسبب فيلم مذكرات مراهقة بتهمة نشر الرذيلة والفحشاء في المجتمع، وكان هذا أول تجسد مادي لمفهوم السينما النظيفة الذي بدأ يتبلور في نهاية التسعينيات. وانتقل الهم النسوي إلى مخرجات وثائقيات أكثر جدية مثل تهاني راشد وماريان خوري.

النموذج المعاكس كان ساندرا نشأت التي لمعت في أفلام الإثارة والحركة خلال بداية الألفية، حيث ترى أنه لا يمكن أن تكون هناك سينما للمرأة وأخرى للرجل، السينما هي سينما، وفازت بمعاملة المنتجين لها كمخرجة محترفة، وهو ما طمأن الصناعة لاعتماد المزيد من المخرجات، مثل كاملة أبو ذكري، والجيل الحالي من المخرجات مثل نادين خان وأيتن أمين وهبة يسري، الذي غالباً ما يتناول المرأة ضمن قضايا اجتماعية وإنسانية أوسع.

كونشرتو في درب السعادة

إذا كانت هناك سمة واضحة للمخرجات في مصر، فهي المغامرة خارج النطاق الآمن. في فترة نشوء الصناعة، كانت عزيزة أمير رائدة في المغامرة بصناعة فيلم طويل، بينما أصرت بهيجة حافظ على تصوير العديد من المشاهد الخارجية الصعبة في فيلم الضحايا، وصورت فاطمة رشدي فيلم الزواج في فرنسا وإسبانيا وأجرت المونتاج في باريس، أما تيتا وونج (1937) لأمينة محمد، فقد كان فيلماً مستقلاً أنتجته بميزانية مبدئية 17 جنيهاً من أجرها كممثلة في أفلام أخرى، وأقامت ستوديو تصوير أعلى سطح منزلها.

وإذا تجاوزنا بسرعة الخلطة التجارية الحريفة في أفلام نادية حمزة وإيناس الدغيدي، مع إشارة لإنعام محمد علي التي تصدت لإخراج الفيلم الحربي الطريق إلى إيلات، وصولاً إلى الفترة المعاصرة التي تشهد نشاط وصعود أكبر عدد من المخرجات. بالعام الحالي وحده، سنجد ميلاً أكبر للمغامرة والتجريب حتى بالأفلام التي صُنعت من خلال آليات السوق التقليدي، مثل أفلام مقسوم ببطولة نسائية لنجمات التسعينيات، وآل شنب بكوميديا الجنائز، ومين يصدق بممثلين صاعدين في دوري البطولة، بينما يعد الهوى سلطان مغامرة في حد ذاته كفيلم رومانسي بميزانية متوسطة.

ودخل الربيع يضحك

الفترة منذ 2011 كانت أكثر فترات تعثر الصناعة في جانبي الإيرادات والتمويل، لأسباب بدأت من توابع الأزمة المالية العالمية، ثم عدم الاستقرار الأمني، والتضخم الممتد، وجائحة كورونا. في مفارقة واضحة، قدمت المخرجات 37 فيلماً خلال 14 سنة، بمتوسط 2.6 في العام، وهو ما يقارب متوسط بداية الألفية التي كانت فترة انتعاش.

هناك علاقة عكسية بين انتعاش البيئة المناسبة للمخرجات وانتعاش السوق، يمكن فهمها بأن الأحوال الصعبة تخرج نساءً قويات (يمكن قراءة العبارة بصوت عالم الاجتماع ابن خلدون). ندرة الفرص تدفع جميع المخرجين (ذكوراً وإناثاً) للبحث عن وسائل تمويل أخرى، مثل منصات الدعم والإنتاج المشترك التي ساهمت في تحقيق 20 فيلماً من إجمالي أفلام مخرجات تلك الفترة، منها 12 فيلماً وثائقياً لم تكن لديها فرص من خلال السوق المحلية.

أيضاً مع تدهور الإيرادات وتضاؤل التمويل، تصبح المخرجات اختياراً أكثر جاذبية لإنتاج أفلام متوسطة أو وصغيرة التكلفة، وهو ما يظهر في 8 أفلام أخرى صُنعت بموارد فردية و/أو شبكات إنتاج شبه مستقلة ومحلية (مثل فيلم عشم لماجي مرجان من إنتاج فيلم كلينك)، مع ملاحظة أن هذا النمط يتداخل أيضاً بالأفلام التي تعتمد على منصات الدعم والإنتاج المشترك، كأن تلجأ المخرجة لدعم من إحدى المنصات خلال مرحلة التطوير، ثم تدور عجلة الإنتاج بشركات مستقلة أو شبه مستقلة.

وأخيراً تكفلت الآليات التقليدية للسوق بإنتاج 9 أفلام فقط من أفلام هذه الفترة، مقارنة بـ21 فيلماً تم إنتاجها خلال فترة بداية الألفية (11 سنة) بنفس الآليات التقليدية، كان معظمها من إخراج ساندرا نشأت وإيناس الدغيدي؛ المخرجتين الأكثر إقناعاً للصناعة.

معايير إحصاء أفلام المخرجات:

  • الأفلام الروائية الطويلة، سواء كانت للسينما، أو تلفزيونية من إنتاج اتحاد الإذاعة والتليفزيون، باعتبار أن آليات صناعتهما متشابهة.
  • الأفلام الوثائقية الطويلة التي وصلت إلى دور العرض العامة أو عُرضت في مهرجانات دولية.
  • احتسبتُ المشاركة الجزئية في الإخراج كإخراج كامل، ولم يشمل هذا إخراج الأفلام القصيرة التي تُصنع كأجزاء من أفلام طويلة، مثل 18 يوم.
  • في فيلمين فقط اعتبرتُ المنتجة كمشاركة في الإخراج، وبالتالي احتسبتُها مخرجة لهما، بسبب مساهمات جوهرية، تحديداً مع عزيزة أمير في فيلم ليلى (1927) الذي يعد أول فيلم مصري طويل، فقد بدأ بإخراج التركي وداد عرفي ثم توالى عليه 3 مخرجين آخرين أشرفت عليهم عزيزة التي عالجت القصة لتلافي عيوب نسخة عرفي، وكذلك فيلم بنت النيل الذي استكملت إخراجه بعد أن توالى عليه مخرجان. خلال فترة نشوء الصناعة، كان هناك تداخل بين دوري المنتج والمخرج في إلهام الصورة النهائية للفيلم.
  • لم أحتسب الأفلام الأجنبية لمخرجات مصريات، بينما احتسبت الأفلام المصرية لمخرجات غير مصريات، مثل المخرجة اللبنانية جوسلين صعب التي قدمت فيلم دنيا، وهو فيلم مصري صُنع بآليات السوق المصري في 2006.

المقصود بهذه المعايير هو أن تكون الأفلام معبرة عن بعض أركان صناعة السينما في مصر، وليس مجرد جهود شخصية لصانعاتها.

# سينما # السينما المصرية # فن

اختيارات النقاد: أفضل 10 أفلام في عام 2024
أفضل أفلام الرعب في 2024
عام الأمل: أفضل 10 أفلام مصرية في 2024

فن